في بيتٍ طينيٍ أشبه بالمقابر في ظُلمته و وَحشته، وُلدت فاطمة ونشأت بين جدرانه المتهالكة وظُلمته المقلقة، مع أمٍ تصارع حياةً لا ترحم، وأبٍ أخذ من الأبوة اسمها وأبدل مضمونها قسوةً وغلظةً وظلماً وقهراً.
وهي بين كل هذا وذلك كالوردة الذابلة التي تمايلها أيادي عاصفة باردة هوجاء.
كان والدها يقدم لها الهدايا المفجعة ببذخ، خاصةً حين تعود من عند الكتّاب ويأمرها أن تتلو على مسامعه ما لقّنتها إياه المعلمة...تتلجلج فاطمة في الآيات فيُهديها والدها ضربةً بأي شيءٍ تقعُ عليه يداه، ويا لحظها عندما كانت في يده جريدة نخل وقّعت على ظهرها قسوتَه وهمجيته.
تبكي فاطمة – وهي بنت سبع سنين - غير فاهمة لماذا يكرهها أبوها كل هذا الكره؟
في ذلك الوقت تسمعها أمها فريدة لتركض مدافعةً عنها ( اتقِ الله ستذبح الطفلة ) ليردّ في جلافةٍ وكره (دلليها أكثر حتى تتعود العِصيان)
كل نهار تعود فيه من الكتّاب للبيت كان بالنسبة لها عودة إلى الجحيم .. ترى أقرانها يفرحون ويهلّلون برؤيتهم لآبائهم مارين في الطريق لينالوا أحضاناً وقبلات وحلوى .. وترى حالها مختلفاً عنهن.
ذات نهار عادت وطالبتها رفيقاتها مشاركتهن اللعب في الطريق .. ترضخ فاطمة لصديقاتها وتبتسم فرحاً ناسيةً قبح حياتها، ليصادف لعبها عودة والدها فيجذبها من ذراعها بقوة كالمساجين المحكومين إلى داخل البيت وسط ذهول الصغيرات ودمعة فاطمة المرتجفة من هول ما سترى من عقاب.
يرميها أبوها كالقمامة على الأرض و ينهال عليها ضربا ويصفها بأقذع الأوصاف.
فتندفع فريدة من المطبخ تضم ابنتها مدافعةً عنها و لتحميها من لسان أبيها السليط ..
( يكفي ضرباً ستقتل الطفلة )
ليرد في بأس وقسوة وفمه يسيل لعاباً وزبَداً من شهوة الضرب ( تلعب في الطريق مثل الصبيان قليلة الحياء وعديمة التربية )
كل ليلة تنام فاطمة في حضن بكائها ورعبها، رعبٌ من والدها، ورعبٌ من ظلام البيت، ورعبٌ من صوت الريح الذي يحرك سعف النخلات الثلاث خارج حجرتها الطينية.
كان الأمان أمنية من أمنيات فاطمة ولطالما كان أغلى من لعبةٍ حلمَت بها وما حصلَت عليها.
تتداخل في رأسها الأحلام عندما ترى آباء نظيراتها في الحيّ، أبٌ يضمها ويرعاها ويحن عليها ..
لماذا يكرهها أبوها هذا ما لم تفهمه!
في أحد الأيام تسمع إحدى الجارات -المعروفة بـ"الدّاية"- تكلم والدتها وهي على الفراش فتركض لاهثةً خوفاً، ذلك الخوف الممزوج باضطراب القلب ونكهة الموت، لتطمئنها الجارة (لا تخافي يا فاطمة , أمك ستأتيكِ بأخ تلعبين معه ) لتفرح فاطمة و تقبّل والدتها وتسألها في طفولة ( أين أخي؟! ) فترد الجارة ضاحكة ( مازال في بطن أمك )
( صحيح ؟!) تضم فاطمة بطن والدتها وتُقبّله قائلة ( أنتظرك من سنين .. كل رفيقاتي عندهن إخوة وأنا أيضاً سيكون لي أخ )
تضحك الجارة و تبتسم فريدة و الدمعة في عينيها تتلألأ.
فريدةُ أيضاً خائفة، هذا حملها الخامس وترعبها فكرة فقدانه كما المرات الماضية، لذا منعتها الجارة من الحركة وأخبرتها أن تحضر من يساعدها في شؤون البيت ..
كان ذلك المساء غريباً، بارداً.. عندما سمع والد فاطمة الخبر سكت و لم يُظهر فرحه..
كانت فاطمة تسمع أمها تقول في لهفة المتحسّر الوجِل ( ستُرزق بطفل لكنك تبدو منزعجاً ) ليرد في سأم اليائس ( هه، هذا إذا أنجبتيه فعلاً ولم يجهض ككل مرة!)
تتغطى فريدة بلحافها لتختفي داخله منتحبة وتبكي فاطمة على أثرها فينتبه والدها ويطردها من الحجرة صارخاً ( امضي لحجرتك ونامي)
تجر فاطمة أذيالها وتمارس طقوسها البكائية المعهودة ..
نوم كالنزف مضرج بالألم والخوف، متى يلتئم جرحه؟؟
متى سينتهي ؟؟؟
تأتي جدّتها للبيت مع عودة أبيها لتسمعها تصهل كالفرس الغاضب وبتهكم واضح (زوجتك حبلى! كل مرة تحبل وتطرح إذا طرحت هذه المرة تزوج وخلصنا من هذا الهم )
( إن شاء الله ) يرد والد فاطمة مستمتعاً بفكرة الزواج الثاني ..
تنادي الجدة على فاطمة حين رأتها واقفة على باب حجرة أمها ( تعالي يا فاطمة ) لتمضي فاطمة في رعب من أبيها وتقبّل رأس جدتها ( كيف حالكِ جدتي؟ )
فيصعقها الرد ( إذا ولدت أمك ولد صرت بخير )
تسمع فريدة كلام حماتها فتلجم مشاعرها متألمة...
في هذه الأيام تنام الجدة عفيفة في حجرة فاطمة وهذا أدعى لتطمئن فاطمة قليلاً لكنها كانت تخاف أكثر حين تسمع رنين أساور جدتها كلما تقلبت في فراشها مختلطاً بصوت الريح في الخارج، وما زاد الطين بِلة صوت صراع الهررة المشردة وحروبها الشتوية ..
لم تبزغ الشمس بعد.. لكن فاطمة أفاقت على صوت جدتها وأبيها يُشاجران والدتها، فوقفت تستطلع الأمر وجسمها يرتعش برداً وخوفاً.
هاقد فقدت أمها الجنين للمرة الخامسة ..
( لن يكون لي أخ!!! ) قالتها فاطمة في نفسها وعيناها تفيضان دمعاً.
خرجت الجدة قبل وقت الضحى وهي تندب حظ ابنها وتأمرهُ الزواج من إحدى قريباتها..
خرج والد فاطمة مُغضباً كارهاً للدنيا ونادباً حظهُ الأسود الذي جعله يتزوج من فريدة، وأثناء خروجهِ كانت فاطمة تستعد للذهاب إلى الكتّاب فتلقاها لينفّس عن غضبه فيها وبدل أن تقرأ كلمات تتعلمها تلقت ضربات تحفر في مشاعرها ألماً وحسرة تكومت على أثرها كالكرة تحت أقدامه ...
كانت الجارة ستطرق الباب حين فتح والد فاطمة وخرج مغضبا لترى الصغيرة ملقاة على الأرض وجفنها ينز دماً.. استأذنت من فريدة التي أوهنها النزف والحزن لتأخذها على عُجالة إلى العيادة القريبة.
( طفلتكِ؟) أجابت الطبيب بالنفي، وأعلَمته أنها جارة خافت على الصغيرة من ضرب أبيها ..
يطبّب الطفلة وهو يحوقل و يسترجع ويُردف بأن عين الطفلة قد سالَت بسبب الجرح ويجب العناية بها..
لا تفهم فاطمة ما يقول الطبيب لكنها تفهم أنها تعيش كارثةً والجارة ليس بيدها شيء..
تأخذ الجارة فاطمة إلى أمها وتناشدها أن تحمي طفلتها لتفرّ فريدة بضعفها و وهنها إلى بيت أخيها.
بعد نهار طويل يعود أبو فاطمة ليجد البيت فارغاً فيرعد و يزبد ويسب و يشتم، ويلحق بفريدة إلى دار أخيها ولكن أخوها وقفَ له بالمرصاد وطلب لأخته الطلاق ومنعه من ابنته لأنه أعماها ..
ليردد في جنون عارم بأن فريدة ستدفع الثمن غالياً و سيأخذ ابنته بالقوة..
ذلك المساء، كان كل شيء صاخباً لا يهدأ.. حتى نامت فاطمة فجأة على صدر والدتها.
بعد أسبوع سمعت فريدة عن قِران أبو فاطمة فنعت حظها العاثر بزوج لم تجد فيه سوى السوء والظلم والشر.. عاد زوجها ليسترد ابنته وليَجد رداً حاسماً من أحمد ( ليس لك زوجةً ولا ابنةً عندنا ) فيستشيط أبو فاطمة غضباً ويجذب فاطمة من داخل البيت بدون مراعاة للمحارم وسط صراخ أطفال أحمد وزوجته وفريدة..
قاومَت فاطمة والدها لكنها شعرت بيدها ستتقطع، فتركت يد أمها وهي تصرخ .. لم يُمهل أحمد زوج أخته فلحقه برجال الشرطة إلى بيته داعماً حُجته بإلحاق الضرر بفريدة وابنتها وتهجمه على محارمه ..
لينتصر أحمد أخيراً ويُلقى والد فاطمة في السجن بسبب أفعاله الظالمة..
تكبر فاطمة في كنف والدتها ورعاية خالها لكنها ككل إنسان عندما يفقد جزءاً من جسده يضع مكانه حسرة .. ماذا لو كانت الحسرة اثنتين .. فقد عضو وفقد فرص الزواج من رجل يحترمها كفتاةٍ يُشعرها بكمالها ويُقدّرها بخصالها، لا ينقصها شيء ..
كانت ترى صديقاتها يتزوجن على التوالي كالعقد المنفرط فترى نفسها معهن، لكن أين عينها الأخرى؟
تضمّها والدتها وتحنو عليها وتطمئنها أن النصيب لم يحِن بعد..
في هذا الوقت، خرج والد فاطمة من السجن محملاً بالحقد، يريد الإضرار بفريدة وابنته اكثر مما فعل، خاصة بعد طلاقه من عروسه وخسارته إياها..
ليتفق مع أحد العجائز الأغنياء على بيع ابنته بمسمى زواج ويعقد قرانهما بدون معرفةِ فاطمة ولا أمها ولا حتى خالها .. وليجيء يوماً طارقًا الباب فتهبط فاطمة على درجات العتبة(من بالباب؟) لكن الطارق لا يرد حتى تصل وبالكاد تفتح حتى تسمع صوتَ أبيها ( أنا أبوكِ ) تتمثل الصور المرعبة لفاطمة فتغلق الباب ذُعراً، و ليُسمعها والدها أفظع أفعاله ويمشي عنها ساخراً .. لم تسمعه فاطمة .. لقد افترسها الخوف .. فلعنته!
كانت تلعنه في كل لحظة قتلها فيها، وهاهو مزق قلبها مِزقاً بآخر رصاصة من شروره ..
اهتزّت فاطمةُ كنخلةٍ وماتت في حُضن الباب.
تعليقات
إرسال تعليق