التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صغيرة على الحزن

 


في نهاية القرن التاسع عشر وأول بزوغ شمس القرن العشرين, في إحدى المدن الواقعة على ضفاف الخليج العربي, كان الناس يرزحون تحت خط الفقر, فمن كان غنياً إما تهددت ثروته بالكساد أو ازداد ثراءً وغنىً, ومن كان عائلاً ازداد عيلةً و ربما تلوى من فقره و جوعه و مرضه خاصةً بعد انتشار وباء الطاعون وأثره على حياة الناس عامة.

في ظل الجنون الإنساني , عانت الأرامل التي نهشها وأولادها الفقر فأخذت تبحث عن عمل في البيوت.

حتى الفتيات كان لهن من الحزن جانب ومن الهم نصيب...


 " بتول " إحدى بنات عائلة رفيعة المقام رغم حالتها المادية البسيطة , نالها من العوز و الفقر ما نال الكثيرين من أشباههم ممن عفّت نفوسهم عن الاستجداء و التسول, خاصة بعد وفاة والدَي " بتول " بالمرض مخلفَين وراءهما ابنة قد بدأت خطواتها نحو عالم النساء و طفلة في السادسة هي " هند"


يتحول العالم كله إلى سواد حالك وكأنه ﻻ نهار, ليس سوى خدعة شروق الشمس وغروبها …صارت البيوت مساكن أشباح غادرها أصحابها, أضحت غريبة بروحها , كأن الموت استحلها و منعها بهجة الحياة .. تتمثل صور الراحلين في كل الزوايا .. في الحجرات و خارج الدور، في الطرقات ..كان كل شيء منطفئًا رغم أشعة الشمس التي تخترق اﻷركان .. 

تحاول " بتول" الثبات أمام مشاعرها المتضاربة، من خوفٍ من المستقبل وحزنٍ على من رحل و مضى تاركاً إياها وحيدة بلا عائل ومعها طفلة صغيرة تحتاج لحنان والديها وعطفهما والأمان بقربهما..


تبدأ في تنظيف بيتها فتتحرك كالنحلة هنا و هناك..وفي لحظة شرود صغيرة تسقط منها دمعة ساخنة ؛ لتجد يدا صغيرة حنونة على يدها .. “ هند يا صغيرتي أنا بخير هذا غبار دخل عيني" تضمها و تربت على متنها و تمسح على رأسها الصغير  لتطمئن قلبها أن كل شيء على ما يرام ..

تهبّ هند لتساعد أختها سعيدة تغني و تترنم ..كل صباح تخرج بتول بصحبة أختها للبحث عن عمل .. لا أحد يرغب بتقديم المساعدة في هذه الظروف .. كانت تراها كلمات مسطرة أمامها " المال الذي سندفعه للخدمة  نحن أولى به "

في معظم الليالي تصبر و توكل أمرها لله ولكن

هذه المرة كانت ليلتهما مؤلمة , إذ لم تجد طعاماً سوى كسرة خبز يابسة وبضع تمرات أعطتها أختها و أسلمَتها للنوم .. 

بقيت في حيرة العاجز فاستغاثت بربها ترجوه تخليصها من عظيم كربها.. 

نامت باكية ومستسلمة لأقدارها ..

يؤذن الفجر و بتول مستيقظة قبله بساعة، مرهقة وتتضور جوعاً..

تؤدي الصلاة في ضعف فتغفو على سجادتها بلا شعور.. تتسلل أشعة الشمس عبر النافذة المفتوحة على وجهها كأنها أم حنون تدعوها للانتباه واليقظة ..

تفيق بتول و تتهيأ للخروج بصحبة اختها على أمل أن تجد عملاً يسد رمقهما ..

في تلك اللحظة يطرق الباب طارق تتعجب بتول " ترى من يكون؟! "

ولا تكاد تسأله حتى يخبرها أن أحدهم دلّه عليها لتعمل عندهم..

استبشرت بتول واستفسرت منه عن كل شيء وقلبها يلهج بالشكر لله..

أنارت الحياة قناديلها في وجهها وكأن ضوء الشمس يحتفي بابتسامتها ويناديها إلى درب السعادة...

تصل بتول إلى بيت مخدوميها وتستقبلها سيدة وقور يتجلى فيها الطيبة والقوة معاً.. تتعرف إليها و تعرّفها عملها .... مرت الأيام وهي تعمل بسعادة  فقد كانت بها رحيمة ولا تثقل عليها بالكثير من الأعمال.. الأيام الجميلة  تعيد لقلب بتول الرضى والسكينة وتحضها على المزيد من التقبل للحياة والصبر على بلاءاتها ..

ذات مساء تنتهي بتول من عملها و تهم بلبس عباءتها مودعة سيدتها كعادتها إذ فُتح باب البيت ودخل رجل بدا منذ رأته بتول بعل سيدتها عندئذ تنبه الرجل لها و اعتذر لدخوله فجأة وعدم استئذانه على الضيوف لكن السيدة ابتسمت -مودعةً بتول- وحيّته بعد أن أخبرته عن الفتاة وطبيعة عملها في البيت..

" خيراً عملتِ أخذتِ أجر اليتامى"

بعد فترة بدأت السيدة تقلل على بتول مدة عملها فتسألها في قلق" هل قصرتُ معكِ سيدتي؟! " 

" لا، أبداً.. بالعكس لكن عندما عاد أبو كريم من السفر أرتأيتُ لكِ أن لا تطول مدة عملكِ حتى لا تتأذي بوجود رجل في البيت فلا ترتاحي بالعمل.. ولا تقلقي لن ينقص من أجركِ شيء " وابتسمت في لطف حتى لاحظت دمعة ترقرقت في عيني بتول و ابتسامة صغيرة تخبرها عظيم شكرها و مراعاتها لظروفها وضعفها.. أغلقت مخدومتها الباب وراءها بعد توديعها وأخذت تبكي لأنها شعرت بألم الفتاة وخوفها من الطرد أو قلة الأجر وشكرت الله أن ألقى في قلبها الرحمة لليتيمتين ..

في المساء كان ابو كريم جالساً في البيت جاءته برقيةً تخبره بعودة أخيه "ابو عبدالله " من سفره فيطلب من زوجته أن تهيأ البيت لاستقبال أخيه وابنه و تجيبه بالسمع والطاعة...

يأتي الصباح محملاً برائحة الخريف القريب ببرودته المحببة لتوقظ بتول أختها الصغيرة وتتناولا إفطارهما قبل الذهاب إلى عملها .. تمسك هند بيدها الصغيرة يد بتول وهي تغني بطفولة بريئة حتى تصلا إلى بيت مخدومتها وتسمع أصوات ضجة فتطرق الباب على وجل .. يفتح شاب الباب تراه لأول مرة فتسمع صوته ممتزجاً بصوت سيدتها وهي تحيي و ترحب بضيوف بالداخل فتسهو عن الرد ليعيد السؤال " تفضلي حجية ؟! من تريدين ؟!" فتستدرك قائلةً أنها تعمل عند السيدة.. ليدخلها من فورهِ معتذراً ...تلج إلى البيت في رهبة فهي لم تعتَد على وجود زوار " رجال " منذ بدأت عملها عند مخدومتها ..

تراها السيدة قد وصلت فتناديها " بتول سنقوم بتنظيف بيت "حماي" و ستأتين معي.. لا تقلقي بيته ملاصق لبيتنا.."

تمتثل بتول و تذهبا لإنهاء مهمتهما لتذهل لمنظر البيت .. " حوش " واسع جداً غُرست به سدرة كبيرة رُبطت على إحدى فروعها القوية أرجوحة تهزها الريح بهدوءٍ رائق كأنها تنتظر من يصعد عليها لينال رحلةً لعالم الأحلام ، كانت ترافق السدرة نخلات رغم مرور الزمن على ريّها إلا أنها ما تزال خضراء ، أشعة الشمس تقتنص المساحة المرخاة  وترتاح فيها ، غرفٌ نوافذها مصبوغة باللون الفيروزي ، وفي كل غرفة بها أكثر من سراج لعِظم مساحتها ، المطبخ رحب رغم كثرة أوانيه وحجم موقده ... 

بدا لها البيت قصراً.. 

قالت السيدة بابتسامة لطيفة تعلو وجهها " تنظرين بدهشة! هل هذه أول مرة ترين فيها بيتاً كبيراً؟! "

لترد بتول " هذا بيت؟! إذن ماهو القصر؟! "   

لتجيبها ضاحكة " لو رأيتِ القصور لقلتِ هذا البيت مجرد " قرقور " لصيد السمك" 

" حقاً!!!"  

 فيما كانت تُذهل  وهي تعمل ، امتطت هند الأرجوحة وراحت في عالم الفرح البريء تشهق ضحكاً ...

كانت موسيقا ضحكاتها أنشودة حماس لأختها فصارت تجيبها بالضحك.. حتى انتهت بتول من تنظيف الغرف و المطبخ وحل المساء .. قالت السيدة " أنا خجلى منكِ فقد أرهقتكِ اليوم " 

" كنتُ مسرورة جداً سيدتي كأنني في بيت السلطان الذي كانت أمي تحكي لي عنه القصص ".. ضحكت السيدة و افترقتا للقاء الغد ...

مضت الأيام و وصل إلى مسامع الناس زواج "عبدالله" ابن اخ ابو كريم وانهمكت بتول مع مخدومتها واقاربها في مراسم العرس.. 

كانت ليلة العرس مضيئة مبهرة محفوفة بالقناديل، عامرة بما لذ وطاب بحضور أكابر الناس من البلد..

كل هذا وبتول تعيش ليالٍ سحرية رغم تعبها كأنها تعيش قصة خيالية، فرِحة تنظر للمستقبل بأمل .. 

كانت أياماً ملونة ، سيدة طيبة و عائلة كريمة ، كانت تشكر الله لأنه ألقى محبتها في قلوبهم ..

كانت تساعد سيدتها و أحيانا تساعد عروس عبدالله " دلال" في منزلهم .. 

لم تتقبل دلال وجود بتول كخادمة ، كانت كل يوم تتهمها بالتقصير في عملٍ ما رغم محاولات بتول العمل بكل صبر إرضاءً لسيدتها على الأقل ولكنها أقنعت سيدتها كي لا تذهب لبيت أبو عبدالله.. 

كانت دلال من اسمها تمارس الدلال والغنج ليطيعها زوجها فيما تهوى .. 

تطلب فتُجاب وتأمر فتُطاع ...

عندما حملت دلال واستثقلت الحمل زعمت أن وجود بتول يساعدها لأنها لا تثق بغيرها.. هكذا ظنت السيدة أم كريم لتطلب من بتول خدمتها.. كاظمةً ألمها وخوفها من عصبية دلال، تمضي بتول على مضض غير عارفة أن أيامها الملونة بدأت تبهت ...

كل يوم تفتعل دلال المشاكل مع بتول لتعود بعد معاناتها اليومية إلى البيت مكلومة حزينة.. 

 ذات يوم خرجت بتول لتطل على سيدتها قبل ذهابها لبيت أبو عبدالله ..

"مالكِ يا بتول؟!" 

سكتت ولم تنبس ببنت شفة و لكن عينيها تنطق بحسرتها و وجعها ..

أمسكت أم كريم بيد بتول " هانت يا ابنتي غداً تلد دلال وتتركي خدمتها .. أعلم بمعاناتك " لتجيبها بتول في همسة تحمل ما بقلبها من صراخ " ماذا لو أنجبت و أبقتني عندها ؟!"

خافت السيدة لكنها فهمت أن القرار الآن بيدها .. 

طمأنتها وقالت أن اليوم هو الأخير عند دلال ... 

قبلت بتول رأس سيدتها متأملة خيراً ، ومضت إلى دلال تستعد للقمتها الأخيرة من المعاناة .. 

لقمةً كبيرة ، حارقة ، مكتظة بالغصص ..

كعادة دلال مهما فعلت بتول تبقى مقصرة ..

كانت هند في زاوية في منزل أم كريم كعادتها عندما سمعت صراخ دلال من خلف السور الفاصل بين البيتين .. 

" أختي بتول " صرخت هند لتنادي أم كريم .. عندما سمعتها ارتدت عباءتها و في يدها هند لتطرق باب بيت حماها في عُجالة سامعة صوت بتول تستغيث .. 

"دلال، ماذا يجري لماذا تضربين بتول؟!"

بدا الغضب على دلال والشراسة في تصرفاتها متجاهلة حملها و ثقل بطنها ولتجيب أم كريم " لقد سرقتني " 

ذهلت بتول وفغرت فاهها بوجهها المتلألئ دموعاً لتدافع عنها أم كريم " ماذا سرقت قولي ؟!

بتول فتاة طيبة ولا تفعلها وأنا واثقة بها "

" لقد سرقت سواري ، هل تقولين عني كاذبة؟!" صرخت دلال وفي عينيها شرر يتطاير .. لتحاول أم كريم تهدئتها " ربما وضعتيه في مكان ونسيتيه " 

" بل هي من سرقته أنا متأكدة " 

نظرت أم كريم إلى بتول ورأتها كعصفور يرتجف خوفاً لتأخذ بيدها " هيا يا بتول لن تعملي هنا بعد اليوم " 

" تأخذيها؟! إنها سارقة يجب أن تعيد سواري " 

"هل رأيتيها بعينيكِ وهي تسرق؟!"

ألجمت دلال لكنها أخبرتها أنها لن تسكت أبداً ..

" أثبتي أنها سرقتكِ وسأعاقبها بنفسي .. أما السوار فسأشتري لكِ غيره .. فقط كُفي شركِ عن البُنية " 

خرجت بتول مع سيدتها وهي تبكي " والله مظلومة .. " كانت تقسم و بأغلظ الأَيمان أنها ما سرقت ..

"أصدقكِ يا ابنتي فاطمئني "

تدخّل أبو عبدالله وأبو كريم عند عبدالله ودلال وحاولوا تهدئتها و وعدها أبو كريم بتعويضها بذهب أغلى وأثمن .. 

مرّت الأيام و بتول حريصة على العمل في صمت عند سيدتها والعودة للبيت فقد ملأت الشائعات البلدة عن خيانة بتول للأمانة ، لاحظت أم كريم وجع بتول وحاولت التهوين عليها لكن بتول اكتفت بالصمت فرجفة قلبها الخائف لم تسكن بعد.. 

في تلك الليلة لاحظت بتول مرض هند فطلبت من سيدتها الرخصة لتذهب للبيت و تعالج أختها من الحمى.. 

أوقدت النار وأشعلت الفحم لتدفئها من برد الشتاء وبرد الحمى .. ما كادت ترتاح وتغمض عينها حتى سمعت الباب يُطرق بقوة...

نهضت متثاقلة وفي قلبها خوف.. " من القادم في هذا الوقتٍ المتأخر؟"

سألت سؤالها وهي تفتح الباب لتُصدم برجالٍ ملثمون يدخلون عنوةً مقتحمين منزل فتاة لا رجل عندها يحميها ، ضاربي عرض الحائط بالشرف والمروءة..

حاولت جمع شتات أكمامها لتغطي وجهها وهي تصرخ " من أنتم وكيف تهجمون على بيتنا هكذا؟!" 

كان الرد عليها صادماً حين سحبها أحدهم متجها نحو الفحم المتّقد وهو يضغط بجسدها عليه لتحاول النجاة بنفسها عن النار وصراخها لم تلِن له قلوبهم ليقول لها آخر وكأنه لا يرى كيف حالها ولا يسمع استغاثتها " أين سوار الذهب ؟! " 

استصرخَت فلا صريخ وكأن قلوب القوم قُدّت من صخر .. 

وفي أبشع الصور وحشية وأفظعها وضعوها على النار ليملأ صراخها الكون .. الكون الذي ما سمع فيه أحد صوت صراخها غير خالقها وأختها الصغيرة التي اختبأت وراء الباب في رعب لم تشهده عيناها من قبل ....

أشعل الملثمون النار في البيت دون أن ينتبهوا لهند وهربوا كما هو ديدَن الجبناء..

وصلت النار إلى جوف الغرفة حيث تختبىء هند لتركض في اتجاه النافذة المسيّجة بقضبان الحديد وصرخاتها الواهنة لمرضها وصغر سنها لا تتوقف .. سُمعت هند أخيراً  ليُهرع الجيران لإنقاذها من وسط النيران التي تتصاعد وعبق الدخان يملأ الأجواء بعدما مضى من البيت أكثره و ليجدوا بتول ملقاةً بقرب الموقد ممددة وسط النيران..

حُملت هند - وأنفاسها متقطعة من أثر الاختناق تبكي وتسعل في آنٍ واحد-خارج البيت  لتخبر الناس الذين التفوا حولها- آخر كلماتها قبل أن تلفظ أنفاسها- عن الرجال الذين هجموا على أختها وقتلوها وأحرقوا البيت .. 

حل الذهول والصدمة مما قالته هند وهي تحتضر وقرروا إخبار أبو كريم بما حدث .. 

في الصباح ضج الناس عند منزل أبو كريم وأرادوا توضيحاً ليُفاجأ الرجل بما حدث لبتول وما جرى عليها.. 

كانت أياماً مُستعرة شبيهةً ببيت بتول وجثمانها المحترق ، إذ كان أبو كريم يطالب أخاه أبو عبدالله بإظهار الجاني و دلال ترفض الاتهام وتمتنع عن الحق .. 

" هل كان عبدالله الفاعل؟!" ألقى أبو كريم سؤاله على أخيه كالصاعقة لينتفض أبو عبدالله مدافعاً عن ابنه مستميتاً لتخليصه من التهمة ولو بالعصبية وحقوق الأخوّة ..

لم تُجدِ المحاولات من أبو كريم لمعرفة الحقيقة بدون دليل ...

مرت الحادثة بعد زمن وهدأ المُصاب، خاصةً أن لا شاهد على الحادثة سوى طفلة في السادسة  قد تكون محض خيالات تصورت لها كجريمة لا سيما أنها كانت محمومة تلك الليلة ولربما أصابها الهذيان ... 

ظن الظالم أن ما كان سيمضي دون عقاب، لكن المظلوم وإن رحل يبقى المنتقم الجبار .. 

ها قد حل يوم ولادة دلال، كان المخاض شاقاً عليها، لمسها الموت عدة مرات، كلما عادت إليها أنفاسها كانت تصرخ طالبة العفو من شيءٍ ما أمامها .. ارتعبت الداية مما تشهد ومَن هذه التي تطلب منها دلال الصفح والمغفرة كلما أفاقت من غشوتها؟!.. 

حضرت أم كريم بعد أن وصلها رغبة دلال برؤيتها وجلست بقربها وأمسكت بيدها " ماذا يا دلال؟! ستكونين بخير وتنجبين طفلكِ بالسلامة"

لترد دلال بلهفة المحتضر " لا سلامة يا أم كريم .. اسمعيني وسامحيني، أنا من دبرت ما جرى على الخادمة بمعاونة أخي ناصر ورغم أني لم أرغب في قتلها إلا أني كنتُ راضية بما أصابها"

شهقت أم كريم لفظاعة ما تسمع وكأن رمحاً اخترق صدرها فترنحت وهي بعدُ ما تزال جالسة .. كانت أم دلال واقفة بقربهما فهوَت على الأرض رعباً وصرخت " أنتِ لستِ ابنتي، أنتِ شيطان وأخوكِ مثلكِ" بكت دلال واستنجدت بأم كريم عندما لاحظت أمها تنظر إليها نظرة غضب .. 

خرجت أم كريم و سحبت معها والدة دلال خارج الغرفة لتطل الأخيرة عبر الباب الذي ستغلقه صارخة " موتي يا دلال ولا تنجبي موتي .. حرام عليكِ العيش" 

أنهت كلامها وانتحبت وجعاً لتضمها أم كريم وتبكي معها .. 

هناك في البستان حيث ناصر وأصدقاءه يمرحون ويستعدون لليلة سمر، كان العامل يعدّ الطعام، ويعبىء السراج بالزيت قبل أن يخبو ضوءُه.. فانسكب الزيت قرب نار الموقد واستعرت النيران في المكان بلحظةٍ لم تمهل ناصر وأصدقاءه ليفروا من المكان في صوتٍ صاخبٍ للقدرة الإلهية " دَينٌ مردود " 

كان وقع المأساة على أم دلال قاتلاً ، أيامها اصطبغت بالسواد القاتم فلم تعرف ليلها من نهارها .. وفاة ابنتها أثناء المخاض و ابنها في الحريق أكبر من أن يتحملها القلب .. ذات يوم خرجت متكئة على ابنتها الصغيرة .. تخطو خطواتٍ ثقيلة .. ها هو منزل أبو كريم .. 

طرقت الباب وانتظرت هنيهة حتى سمعت صوت حفيف ثياب أم كريم وقبل أن تفتح سألت " من بالباب؟!"

" أنا أم دلال " قالتها بغصة الثكلى المحروق قلبها .. 

فُتح الباب واستُقبلت بكل حب وعندما جلست أم دلال تنفست الصعداء ثم قالت " الحق لابد أن يعود إلى أصحابه " ومدت يدها لتخرج منديلاً كبيراً أشارت إليه وهي تنظر لأم كريم بصوت مبحوح اختلط فيه البكاء الخافت ورجفة الشفاه " هذا ذهب ابنتي المرحومة و ذهبي، وقد قررتُ عمل وقف باسم الخادمة المظلومة لعلها تصفح عني وعن ابنتي وتسامحها ، هلاّ تساعديني يا أخيّة " 

سكتت أم كريم ولكن دمعتها صرّحت عما في قلبها.. 

"كلنا ظلمناكِ يا بتول"


  



  




  

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

طفلة بين يديك

بين يديك ..  أُلقي روحي لتمحو كل آلامي .. كَـ طفلةٍ مدللة تبكي في حضن أبيها .. ليغمر قلبها سكينةً و سلاماً .. نعم .. أشكر الله كثيراً .. لأنك نعمةٌ أخاف عليها من الزوال !

كسر القيود ~

بعيداً عن الأحاديث المنمّقة و الجُمل المركبة بدقة .. كنتُ إنساناً يلهث خلف عجلة الزمن مخافة انهيار عقارب الساعة على رأس السراب .. كنت أهرب من الماضي للحاضر ..للمستقبل المجهول ..  أي شيء كان أفضل من "الآن" الميّت احتضاراً .. أي شيء كان سينقذني و لو كان مجهولا .. وجاء المجهول .. ومعه المستقبل .. جاءا ..! بالكاد أسمي هذا مجيء ... بل هو سطوة .. هو قائد .. و أنا مقيّدة .. مصفّدة الإرادة .. مستسلمة بلا شعور .. اعترف .. كنت أنام تحت تأثيره .. القلب وحده الواعي .. قد كان يخفق باختناق .. محاولات مستميتة للخلاص .. كان أولها إيقاظ الروح .. قُرعَت نواقيس الخطر .. حان الوقت لكسر القيود .. واختراق حاجز التسليم بقدَر لم يكن مكتوباً .. الآن .. إما الموت تحت وطأةِ الجنون .. أو الفرار من الجحيم .. و قد قررت ..!

قلب من ورد ..~

تلك القلوب تعذبت حتى ذوَتْ .. أوراقُها وتمزقتْ بيديكَ .. لا تشكوَنْ أشواكها إذْ لم تُرِدْ .. منها السّقا وبالندى ترويكَ .. .